في عصرٍ حيثُ التكنُولوجيا تشكّلُ طابعاً طالَ كلّ جوانبِ حياتِنا, كانَ لابدّ لمجالِ صناعة القهوة أن يواكبَ هذه الحداثة المتسارعة. فَظهرت اتِجاهات حديثة تَهدفُ إلى رفعِ جودةِ الانتاج وخلقِ حلولٍ بديلةٍ وسهلة تخدمُ رؤى التنمية المستدامة. في مقالِنا هَذا سنلقي الضّوء على أهمّ الابتكاراتِ الجديدة فيما يخصّ زراعة وصناعة القهوة.
● التكنولوجيا وزراعة البن:
من المعروف بأنَّ حبوب البنّ تحتاج لظروفٍ مناخيةٍ محددة وتربة خصبة حتى تنمو وتثمر, حيثُ تحتاج شجرةُ البنّ ما يقارب أربعةَ سَنواتٍ من العملِ الدؤوبِ والعناية اللصيقة كي تُصبحَ جاهزةً للحصاد. ولكن ومع التغيراتِ المناخيةِ التي طَرأت بالسنواتِ الأخيرة, أشارت الإحصائيات بأنَّ الانتاجَ العالميّ من البن قد قلَّ في عام 2023 بنسبةِ 3%. وذلكَ بسببِ تغيّر طبيعةِ مياهِ الأمطارِ ومواعيدها المتوقعة, فتأتي متأخرةً أو سابقةً لآوانِها, مما يُسيء لحبوب البن ويجعل زِراعتها أَصعب. كَما يشيرُ الخبراء إلى احتماليةِ أن تُصبِحَ حوالي 50% من المزارع الحاليّة غير صَالحة للزراعة ولاسيما بِن آرابيكا بحلول عام 2050. ومن ضمن القائمة مزارع البرازيل وفيتنام وكولومبيا وإندونيسيا, من أكبر الدول المنتجة للقهوة حول العالم.
أحدُ الحلولِ المتبناة اليوم على نطاقٍ واسعٍ هي الحراجة الزراعية المتزامنة, وهو علمٌ واسعٌ ينطوي على التفاعلِ بين تقنياتِ الزراعة والحراجة بهدفِ خلقِ نُظم انتفاعٍ بالأرض أكثر تنوعاً وإنتاجيةً وربحيةً وصحةً واستدامةً. يقومُ مزارعو القهوة بالموازنةِ بينِ الظلّ والشّمسِ, وتقليمِ الأشجارِ بعنايةٍ, ثمّ جمعِ الأوراقِ والفروعِ على الأرضِ وتركِها لتتحلل وتثري التّربة بالموادِ الغذائيّةِ.
كما يتجهُ العلماءُ الزراعيون أيضاً نحو زراعةِ حبوبِ البن في المعامِل. في العادة تُزرَع بذورُ القهوة بدايةً في مشاتلٍ مظللةٍ بعيداً عن أشعةِ الشمسِ ويتمُّ سقيها بشكلٍ دوري حتى تُصبِحَ جذورها راسخةً وجاهزة للزراعة خارجاً. لكن مِنَ المثيرٍ للدهشةِ بأنّ علماء فنلديين قد نجحوا مُؤخراً بصناعةِ حبوب بن في المخبر مستخدمين تقنية التعديل الوراثي, مشيرين بأنّها تحوي حبوب بن فقط ومذاقها يشبه مذاق حبوب البن العادية تماماً. هذا الانجاز الفريد قد يشكّل حلاً واعداً لتلبيةِ متطلبات الانتاجِ المتزايدة على القهوة عالمياً.
وفي حينِ لم يَعد بمقدورِ المزارعين شَراء المزيدِ من الأراضي لتحقيق كمياتِ الانتاج المطلوبة, توجَه استثمارهم نحو توظيفِ التكنولوجيا في الزراعة, مثل أجهزةِ استشعارِ الأرض التي توفر تحليلاً مرئياً للمزرعة والنباتات بمساعدة الأقمار الصناعية, وفي تقنياتِ تجفيفِ القهوة لمراقبةِ الحرارة المطلوبة, بالإضافة لتقنياتِ الرّي شِبهِ الآلي التي تقيس عَجزِ المياهِ والظروفِ الجويّة وتقدم توصياتٍ على أساسها.
● التكنولوجيا وتحميص القهوة:
وظّفت شركاتُ الانتاجِ أيضاً قسماً كبيراً من ميزانيتها في أجهزةِ التحميص الحديثة التي توفرُ إمكانيةَ مراقبة الحرارة والوقت والتكسيرِ الأول والتشققات أثناء تحميص حبوب البن. كما أنّ بعض الأجهزة تُتيح خيار حِفظِ البياناتِ حسب الرّغبة وتطبيقَها بشكلٍ تلقائي في تحميصٍ آخر, وتحكماً أكبر بجميعِ مراحلِ عملية التّحميصِ من درجة الحرارة داخل المرجل والهواء الساخن ولهب الموقد إلى ضبطِ الوقتِ ووزنِ القهوة, ومرحلةِ التبريد.
من الإنجازاتِ الفريدة والتي تستحقُ الذكر, ما قامت بهِ شركةُ صناعةِ القهوة الفنلندية "كافا" بالتعاون مع شركة "Elev" للتقانة, حيثُ طَلبت من الذّكاءِ الاصطناعي تحضيرَ وصفةٍ مبتكرة لمشروبِ قهوة,بعدَ أنّ قَدمت أوصافاً دقيقةً لحبوبِ البنّ المتوفرة ونكهاتها, فصنعَ منها وصفةً لمزيجٍ جديدٍ, وبعد تنفيذه من قِبل الباريستا وتجربتهِ وجدوا أنّ هذهِ الخلطة تُقدم نوعاً جديداً من القهوة بنكهةٍ متناغمة تجمعُ بينَ المذاقِ الحلو ومذاق الفاكهة الناضجة، ليتمّ تبنيها في مقاهي الشّركة لاحقاً ويطلق عليها اسم قهوة "AI-conic", التي نالت إعجابَ العديدِ من الزبائن.
يُمثلُّ دمج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ في زراعةِ وصناعةِ القهوة ثورةً حقيقيةً تُعيد تشكيل هذا الفن العريق. بدءاً من المزارعِ وصولاً إلى أكوابِ المستهلكين، تُحدث التطورات المتقدمة تحولاتٍ هائلة على مستوى الكفاءة والجودة والاستدامة في انتاج وتقديم القهوة.